عنق الزجاجة ….. قصة قصيرة

ارتدت البلدة صبيحة ذلك اليوم ثوب الحداد، بدا كل شئ مسودا يقطر حزنا؛ لم يجد الخبر بيتا لم يذع فيه، لم يفرق بين بيت جدرانه جامدة من اﻷسمنت والحديد وآخر حوائطه تئن يخفي شقوقها آثر بياض قديم. اخترق النبأ جميع الحواجز وتخطى كل اﻷسوار.

استقبله البعض بالدهشة والاستغراب، بينما هز الآخر رأسه، وفي صوته نبرة خبير باﻷمور وما أكثر هم بالبلدة.
– ألم أقل لكم أن هذا سيحدث يوما ما-

مع بزوغ شمس أمس بدأ عمله كأجير، في ظهيرة نفس اليوم رجع لمنزله، أخبرته زوجته أن زجاجة الزيت تحتضر، ذهب للبقال لكنه أسقط في يده عندما علم بزيادة سعرها بضعة جنيهات قفل راجعا خالي الوفاض.

أمسك بالزجاجة جاعلا إياها في وضع رأسي مائلا للأفقي تجمعت قطرات الزيت في عنق الزجاجة قبيل الفوهة ثم سكبها مرة واحدة ليتناولوا بعدها طبختهم السوداء.

عصر ذلك اليوم عرج على تاجر التموين متسائلاً عن ميعاد وصول الزيت فالشهر قارب على النفاذ, بشره التاجر بوصول شحنة في الغد الباكر.

في المساء جلس على المقهى, لم يك للبلدة في تلك الليلة حديث سوى تلك المشاجرة التي نشبت بين ضابط وشباب البلدة نتيجة تعنت شديد لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يحدث على الضفة المقابلة من النهر حيث السلطة والثروة، يتخلل ذلك جلسات وتربيطات ومؤامرات ومكائد استعدادا للمحليات التي لم يسن قانون لها حتى الآن، جزر تتباعد فيما حوله وهو قابع في مكانه تحسس محموله العتيق عندما ظهر ذلك الإعلان مناشدا التبرع ولو بجنيه, تذكر الإثني عشر جنيهآ التي اقترضها من الشركة ولم يسددها ولكن كيف؟ حتى ذلك المعاش الهزيل(كرامة)لم يحصل عليه حتى الآن, يعرف أثرياء كثر وذوي أملاك حصلوا عليه زورا وبهتانا وحتى الآن ينتظر هو دوره.

قبيل فجر اليوم استعد جيدا وشحذ قواه وانطلق ليلحق بالزيت.تسمرت قدماه عندما أبصر ذلك المشهد.

أمة من الناس يتدافعون، استعاد رباطة جأشه اندفع مخترقا تلك الأمواج المتلاطمة من البشر, لكن جسده النحيل لم يسعفه، قاوم لكنه سقط بالنهاية وانداس تحت الأقدام.

لفظ أنفاسه الأخيرة!

كل البلدة أجمعت على أنه شهيد وهم عادة لايجمعون على شئ بدءاً من أبراج المحمول وصوﻻ إلى نائب من بني جلدتهم .

“لكن الشهيد لا يغسل ويكفن بملابسه”هكذا قال إمام المسجد، خرجت البلدة عن بكرة أبيها لوداع شهيدها اصطف الناس وراء النعش وأمامه وعلى جانبيه والجنازة تقف تارة وتسير تارة والناس تهرول والأحذية تتناثر والدموع تتساقط والصراخ والعويل يعلو، تسابق الجميع لحمل النعش أملآ في نيل الثواب, ولكن حدث شئ عجيب!

أخذ النعش يتثاقل إلى أن تجمد مكانه ثم راح يتقهقر للوراء والناس يرددون”لا إله إلا الله” .

تهامس بعض الخبثاء في صوت مكتوم”خائف من لقاء الله” بينما رد البعض”إنه شهيد”.

غير النعش اتجاهه والناس من خلفه والأيدي تتناقله في سرعة وخفة فطن البعض لما وراء ذلك فقالوا “ادفنوه حيث يقف”.استهجن نفر ذلك انقسم الناس كعادتهم وفي النهاية قال الذين غلبوا على أمرهم سندفنه حيث أراد.

ومنذ ذلك اليوم لم يجد الناس عناء في دفن شهداءهم فلقد نقلت المقابر لتبقى ملاصقة لمحل التموين، لم يفصل بينهما سوى سور صغير متهدم باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب!

Similar Posts

اترك رد